منذ أن ألّف الإمام محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256 هـ / 869 م) رحمه
الله؛ معلمته الرائعة التي سماها: “الجامع الصحيح المسند من سنن رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأيامه ولياليه”؛ خلق هذا الكتاب المتميز تفاعلا علميا
وفكريا قل أن حصل مع مؤلف في تاريخ هذه الأمة ..
ولا أدل على ذلك من كون
1 الرواة الذين رووه يعدون بالآلاف مما يجعل نسبة هذا الكتاب إلى مؤلفه أمرا قطعيا بسبب التواتر الواقع في روايته
2 عملية النقد الفاحص والدقيق التي مارسها خبراء علم الرواية وغيرهم على
هذا الكتاب؛ والتي انتهت بإصدار شهادات هامة تزكي هذا العمل؛ صدرت عن أبرز
وأعلم أولئك الخبراء في ذلك الوقت ومن بعدهم
وهو ما أفرز لاحقا ما عرف في “علم مصطلح الحديث” بتلقي الأمة كتاب البخاري بالقبول”.
3 حجم الخدمات التي قدمها العلماء لهذا الكتاب كبير جدا كمّاً وكيفاً؛ من شروح واختصارات وتنكيتات وتعليقات وتخريجات وتعريفات ..
فالمكتبة الإسلامية تزخر من ذلك بثروة هائلة أنتجتها آلاف العقول من مختلف
تخصصات العلوم الإسلامية؛ مما يؤكد المنزلة الرفيعة لهذا الإنتاج العلمي،
وما تأسس عليه من منهجية قوية ومبدعة ..
هذا الاحتفاء لم يكن خاصا بعلماء المشرق، ولا توقف عند علماء ذلك الزمان؛
بل كانت لهذا الكتاب أصداؤه الكبيرة في أقصى غرب الأمة الإسلامية؛ وكان
علماء المغرب الأقصى من أكثر العلماء احتفاء بهذه المعلمة وشهادة لها
بالسبق في مضمار تدقيق الروايات، وميدان العبقرية الفكرية في المناهج
العلمية، فضلا عن الربانية التي عبروا عنها باعتبار هذا الكتاب كتابا
مباركا وسببا من أسباب التقرب إلى الله من خلال قراءته ودراسته والعناية به
..
كيف لا وهو وعاء ضم قدرا هاما من أقوال وأحوال سيد الورى وإمام الرسل وكبير
المصلحين سيدنا محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم؟
وكيف لا وقد بناه مؤلفه على أساس جمع بين المنهجية العلمية الرصينة والروحانية الربانية، ولم يزل يمحصه طيلة 16 سنة؟
ولو أراد الباحث أن يبرز مظاهر ذلكم الاحتفاء وتجليات تلكم العناية
المغربية؛ لما وجد الوقت الكافي ولا الجهد الشافي؛ وهو ما شعرت به وأنا
أفكر في الكتابة في هذا الموضوع؛ حتى اهتديت لنموذج رأيته صالحا، ومثال
ظننت أنه سيوصل الفكرة بشكل أفضل للأسباب التالية:
1 أن صاحبه عالم مغربي متضلع في علوم الشريعة
2 أنه مفكر مجتهد مبدع يتكلم بخلفية نقدية مستقلة وفاحصة
3 أنه من علماء ومفكري القرن العشرين
وهذا يزيد من أهمية كتاب الإمام البخاري؛ حيث يؤكد دقة وسلامة منهجية هذا
الكتاب، والتي تواتر عند العلماء المتخصصين وغيرهم قبولها والإعجاب بها من
أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، ومن القرن الثالث الهجري إلى القرن الرابع
عشر ..
أعني بالنموذج: الفقيه العلامة والسياسي والمفكر والمصلح محمد بن الحسن
الحجوي الثعالبي (ت 1376 هـ / 1956 م) ؛ وورقاته التي سماها: “الدفاع عن
الصحيحين دفاع عن الإسلام”.
توجد منها نسخة تامة بخط المؤلف في الخزانة العامة بالرباط، وطبعها الدكتور
محمد بن عزوز سنة 2003 بدار ابن حزم مع دراسة وتحقيق، ذيله برسالة “توضيح
طرق الرشاد لحسم مادة الإلحاد” تأليف: العلامة محمد بن أحمد العلوي
الإسماعيلي (ت 1367هـ).
وقد ذكر الفقيه الحجوي في ورقاته المنوه بها؛ أن سبب كتابتها هو ما أقدم
عليه أحدهم من الزعم “بأن حديثا في صحيحي البخاري ومسلم مكذوب، وأن
الملاحدة وضعوه، وأهل الأهواء والبدع صنعوه”.
وأنه زعم ذلك في أحد المجالس السلطانية سنة 1362هـ في عهد الملك محمد الخامس، والتي كان يعقدها في شهر رمضان من كل سنة ..
وقد كان الفقيه الحجوي أبرز علماء تلك المجالس، إلى جانب: العلامة أبي شعيب
الدكالي، والعلامة محمد بن العربي العلوي، والعلامة محمد المدني بن
الحسني.
وفي بيان أهمية مثل هذا الموقف التصحيحي النقدي الذي يهدف إلى صيانة مصادر
الدين الإسلامي الحنيف؛ يقول العلامة علال الفاسي في كتابه (دفاع عن
الشريعة ص 62):
“ومن لطف الله بدينه وشريعته أن قيض لهما في كل عصر من يقومون بحمايتهما
والذب عن حماهما وحفظ مراسمهما … فالانحراف عن الدين، وقيام الطوائف
المختلفة لا يضر الإسلام نفسه في شيء، وإنما يضر المنحرفين والمخالفين،
فالذكر محفوظ، وأهله لابد أن يوجدوا، ولابد أن يقوموا بمهمة التجديد، ونفي
الانحراف والانتحال، واستبعاد التأويلات الجاهلة.
وقد وقع فعلا كل هذا في مختلف العصور السابقة فقيض الله للأمة من يصلح
أمرها، ويوقظ بالها، ويهديها إلى البعث الصحيح، والإحياء النافع، ناهيك
بأحمد بن حنبل وما لاقاه في سبيل الدفاع عن العقيدة والشريعة، وناهيك
بالباقلاني والأشعري وابن القيم وابن تيمية والشاطبي وابن حزم وعياض وابن
العربي والطرطوشي وابن الحاج وغيرهم من عشرات الآلاف من رجال الإسلام الذين
قامت على أكتافهم العصور المسلمة الماضية”اهـ.
فلا مجال لاستمرار العمل الدعوي والتربوي والثقافي والسياسي، الذي ينطلق من
الرؤية والمنهجية الإسلامية، ولا لقيام الحركات الإصلاحية التجديدية التي
تتأسس عليهما؛ إذا تم إسقاط الثقة بالمصادر الأساسية للإسلام.
من هنا يبرز الفقيه الحجوي خطورة مآلات الجرأة على هذا الكتاب بقوله
“إذا ساء ظن المسلمين بالصحابة ورجال البخاري ومسلم وأئمة الدين نقلة الشرع
المطهر، واتهموهم وكذبوا الكتب الصحيحة التي وقع الإجماع على قبولها؛ وهي
الحجة التي بين أيدينا وأيدي المسلمين في عموم الأرض أو دخلهم التشكيك
فيها، صارت ديانتنا إلى ما صارت إليه ديانة اليهود والنصارى المطعون في
كتبهم، وصرنا نطعن ديننا بيدنا، وليس لذلك من فائدة سوى شفاء صدورهم،
وصاروا يقولون لنا نحن وإياكم في الهوى سوا”.
وقال: “لا ينبغي لمسلم أن يتجرأ على البخاري ومسلم بالطعن والتكذيب في أحد
أحاديثهما بحجج واهية ظهرت له قبل التثبت؛ إذ إن من المعلوم إجماع الأمة
على تلقي أحاديثهما بالقبول، وقد احتاج إليهما جميع المذاهب الأربعة
وعليهما أسست معاهد الفقه والدين.
وهل نتوصل إلى سنة نبينا صلى الله عليه وسلم المبينة للقرآن إلا بهما
وبالسنن الأربعة والموطأ ومسند أحمد؛ والعمدة كل العمدة على الصحيحين”.
ويشير إلى النوايا السلبية الخفية لبعض المنتقدين بقوله:
“ولعل ما أظهره الملاحدة من التأفف والتأسف على حديثي السحر والسم؛ ليس
بمراد صح، وإنما يريدون تشكيكنا في سنة نبينا، وهدم أساس ديننا”.
وفي موطن من ورقاته؛ وصف النقد الذي لا يعتمد على منهجية علمية بأنه “من ألاعيب الصبيان”.
وفي بيان أن دراسة ونقد أحاديث الصحيحين تحتاج إلى أهلية علمية تتمثل في
“قواعد الأصول والبيان التي يجب على كل متكلم على النص أو مستدل به أن
يعرفهما ويعرف تطبيقهما .. فيجب على من يريد أن يستدل بالقرآن والسنة أن
يعرف علوم العربية وعلوم البيان والمنطق والوضع والأصول ليدرك أسرارها؛ لأن
هذه العلوم بمثابة قوانين لفهم الألفاظ؛ بحيث أن من لم يعرفها يقع له
الخطأ في فهم المعاني، ويظن أنه فهمها وهو غالط جاهل”.
وفي عدد من المواطن يجيب الفقيه عن متمسك بعض منتقدي الصحيح؛ ألا وهو
القرآن والعقل؛ حيث يردون بعض الأحاديث بزعم أنها تتنافى مع العقل أو مع
القرآن؛ فقال عن حديثي “زواج علي” و”الإمامة في قريش”:
“فما أدري بأي آية قرآنية أو حجة عقلية قطعية يستدل على تكذيب الحديثين؟”.
وقال عن حديث “ملك الموت”: “فلا قرآن ولا عقل يسيغ الطعن في هذا الحديث”.
وقال عن حديث “نزول عيسى آخر الزمان”: “وما أدري أي آية في القرآن ترده أو تكذبه؟”.
أود في الختام أن أشير بأن انتقاد بعض الأحاديث في الجامع الصحيح للإمام
البخاري؛ لا يعتبر مذموما في حد ذاته؛ وإنما يكون مذموما حين يتأسس على
الهوى أو الكراهية أو الظن والتقدير الذي لا ينبني على منهجية سليمة؛ سواء
كانت تلك المنهجية جامعة لأسس نقد الروايات من خلال الأسانيد وقوانين
الرواية، أو من خلال المتون وفقه الدراية ..
فهذا غير مرفوض؛ بدليل أن العلماء قاموا بنقد منهجي للجامع الصحيح منذ أن
أصدره صاحبه وإلى عصرنا وزماننا؛ ومن هنا فإن دفاع العلماء عن الصحيحين
وأمثالهما من المراجع الأساسية في الدين الإسلامي؛ لا يعني أن تلك المراجع
مقدسة أو أن أصحابها معصومين؛ بقدر ما هو نوع من الصيانة لها عن العبث
واللعب، وعن المقاصد والنوايا الشريرة التي تغذيها كراهية البعض لهذا الدين
الحنيف.
المصدر مركز يقين
إرسال تعليق